الثلاثاء، 24 فبراير 2009

حرب غزة إستحقاقات النجاح وضريبة الفشل


بقلم: وائل الحديني

استرشادًا برؤية الراحل الكبير د. عبد الوهاب المسيري؛ مر الخطاب السياسي العربي في تعامله مع الظاهرة الصهيونية بعدد من المراحل ربما توضحها المصطلحات الآتية:

(1) مصطلح (إسرائيل) المزعومة: وهو مصطلح ليس له أية مقدرة تفسيرية ربما سوى عدم التصديق العربي بما حدث، والذي حدث للتذكير به أن كتلة بشرية (متنافرة مختلفة المشارب والجذور واللغات) جاءت تحت رايات الاحتلال البريطاني، وتدريجيًا تبدأ في احتلال الأرض إما بالقوة العسكرية أو من خلال شراء الأراضي إما مباشرةً من بعض كبار الملاك، أو بشكل غير مباشر من خلال وسطاء، ثم تتحول الكتلة البشرية الغازية- بين يوم وليلة- إلى دولة تستولي على جزء كبير من فلسطين، ثم تقوم بطرد السكان الأصليين، يساندها في ذلك العالم الغربي بأسره.

(2) شذاذ الآفاق: وهو مصطلح استُخدم في فلسطين؛ للإشارة إلى "المستوطنين" الصهاينة، ويخلط بين التهوين وعدم التجذر.

(3) مخلب القط: وظهر في منتصف الخمسينيات للدلالة على اعتبار (إسرائيل) رأس حربة للاستعمار الغربي، وهو مصطلح استمر فيما بعد في عبارة "إسرائيل كحاملة طائرات"؛ باعتبارها "قاعدة الاستعمار الغربي"، وهي مصطلحات تقترب إلى حدٍّ ما من الطبيعة الوظيفية للظاهرة الصهيونية.

(4) الدولة الصهيونية، الدولة اليهودية، الدولة العبرية، الكيان الصهيوني.

(5) فلسطين المحتلة: وهو مصطلح يوحي أن وضع فلسطين لم يتقرر بعد، وأنها لم تصبح بعد (إسرائيل) بشكل نهائي.

ربما كان هذا في الماضي، فالخطاب السياسي العربي أصبح أكثر تحايلاً في منطلقاته، والتباسًا في دلالاته ولم تعد فلسطين محتلة، وإنما أصبحت هناك رؤى واقعية تقتضيها الحكمة تفصل بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى أساس هذا التقسيم (الاختياري) تم تجميع المبادرة العربية للسلام، وعلى أساسه أيضًا رصَّت النظم العربية صفوفها، وميَّزت بين معسكراتها، فهناك دول للاعتدال وأخرى للممانعة، وعلى أساسه تميزت مواقف الدول العربية في حرب غزة الأخيرة، وعليه بنت كل دولة منطقها، وأعلنت مبرراتها وحرَّكت جيوشها الإعلامية لتخوض غمار حرب قاسية- ظنَّها البعض حقيقيةً- شتَّتت الجهود وخَلَّفت جراحًا ووجد خلالها كثير من المفكرين (المزعومين) والسياسيين (المنهكين) وعوام الجماهير فرصةً للهروب من استحقاقات الأُخوَّة وأبجديات النصرة ونداءات الواجب!.

فحينما كانت المظاهرات الحاشدة تتحرك غاضبةً في أوربا كانت العقول العربية المصابة بالزهايمر تُحمِّل الضحية المسئولية الكاملة عن الحرب!، ثم تعدَّى هؤلاء حدود المنطق واتجهوا نحو قوى إقليمية بسهام النقد، ثم توقَّفوا نحو دول عربية، وكالوا لها السباب والشتم والذم، ولا يُعقَل أن يحدث ذلك إلا بمباركة سياسية وضوء أحمر(داعر)!.

لكنهم في النهاية نسوا إسرائيل، وتناسوا المصطلحات الواحدة تلو الأخرى، فلم تعد إسرائيل مزعومة، ولم يعد الصهاينة شذَّاذ الآفاق، ولا مخلب قط ولم تعد فلسطين محتلة، لكن بقيت صواريخ القسام وعبثية المقاومة والرواية المفضوحة لما يسمى الإمارة الإسلامية المزعومة هي الأسباب والمبررات المقبولة للحرب والقتل والتدمير!.

وعلى هذا الأساس أُغلق المعبر ومُنِعَ المحاصرون من كسرة خبز، وتلال من الأغذية في الشاحنات أصابها العطب على بعد أمتار لم يُسمح لها بالمرور (هذا ما اقتضته الحكمة السياسية)!.

ربما يظن البعض أن خفايا حرب غزة الأخيرة وتداخل المعطيات والوقائع أصابت الجميع بنوع من البلبلة وعدم الاتزان؛ لدرجة أن كتّابًا ومفكرين بدوا متأرجحين في تحليل أسباب المجزرة عاجزين عن الفهم، وكأنهم ضُربوا تيهًا في حقول ضباب سرمدية أعاقت الرؤية وشلت الدماغ!.

هالني أن خبيرًا بمركز الأهرام يتحدث عن موقف مصر بالنسبة للولايات المتحدة بأنه عصيٌّ على الضغط ويضرب بأحداث غزة مثلاً، وكأنه كان يتوقع أن تدخل مصر نصرةً لسكان أسدود وسديروت؛ تلبيةً لضغوط أمريكية، لكنها استماتت رفضًا، بينما كاتب آخر يختزل الحرب في نجاح وحيد؛ نقلت (الجزيرة) الفضائية مركز الكراهية من أمريكا وإسرائيل إلى قلب القاهرة، ناهيك عن قمم المجاريح وحديث المزايدات وحكومات الشوارع وإفك التحريض!.

في غزة كتب عنوان الصمود، والتحم المرابطون بديارهم وأرضهم رغمًا عن الصواريخ، ولم يخرجوا منها إلا جبرًا في رحلات خاطفة إلى القبور؛ ليكتبوا نهاية مزاعم بيع الأرض والتفريط.

لا يمكن أن يَدعي عاقل أنه لم تكن أمام الشهيد نزار ريان الفرصة للنجاة بزوجاته وأطفاله الرهط، لكنه سطر عنوانًا لكتاب التضحية وخطَّ فصلاً لم يسبقه إليه أحد في الأولين!.

حينما كان مسئول عربي كبير يلبي دعوة رجل أعمال لبناني، ويسهران في احتفالية أعياد الميلاد في قلب القاهرة على صوت الطرب، وتمايل فرقة رقص إسبانية حتى الصباح؛ كان الطيران الصهيوني يتعمَّق في سماء فلسطين، ينتزع الأرواح انتزاعًا ويمزق الأشلاء، ويؤرِّخ لعقود من الحقد الذي اعتبره التركي أردوغان (بقعة سوداء في التاريخ)!.

أعلن أردوغان أنه لا يمكن مسامحة الكيان الصهيوني على ما قام به في غزة، وأن القضية الفلسطينية هي قضية تركيا الإنسانية، ربما يجب أن يرفع الفلسطينيون القبعة وينتشوا زهوًا لأنه ما زال أحد يذكر قضيتهم بمجموعها!.

لقد أعادت حرب غزة التأكيد على عدد من الحقائق؛ أهمها أنه لا استقرار ولا أمن ولا أمان حتى تتم إزالة هذا الكيان الوحشي الهمجي من هذه البقعة، ودفنه في مغارات التاريخ.

هذه استحقاقات النصر وضريبة الهزيمة، وإذا كان هناك من يرفض هذا الطرح اقتناعًا وليس جبرًا فالمسالك متعددة وتتسع للكثيرين.


نافذة مصر


ليست هناك تعليقات: