الأربعاء، 27 أغسطس 2008

الديكتاتور قبل الأخير

الرئيس الباكستاني برويز مشرف


تساقطت ساخنة وغزيرة ـ على الملأ ـ دموع الجنرال الحجري برويز مشرف في الثامن والعشرين من نوفمبر2007 ، وهو اليوم الذي تخلى فيه الجنرال جبراً عن بزته العسكرية ..

والدموع تعني في واقع الديكتاتوريات : تصدع الصنم وظهور الشقوق والشروخ على جدران هيئته وقساوة صرامته ..

والتخلي عن البزة العسكرية تعني : فقدان القوة والمِنعة ، وانطِفاء النياشين ، وضياع هيبة (البيَادة) التي تدوس على الأجساد ، وتنتهك حرمة الرءوس ـ وتعبث بالملامح ..

في 10 اكتوبر1999 إ ستولى مشرف الذي كان قائداً للجيش الباكستاني على عناوين الأخبار السلبية :

( نواز شريف ) الذي كان في أدنى شعبيته بعد أن خذل المقاومة الكشميرية التي استولت على مرتفعات هندية إستراتيجية حاول إسقاط طائرته وأعلن إقالته من قيادة الجيش ، لكن عدداً من قادة الجيش رفضوا القرار ، وتمسكوا بقيادة مشرف بل وحاصروا شريف وفرضوا عليه الإقامة الجبرية ، وهكذا وجد مشرف نفسه حاكماً لباكستان !

خرج الرئيس ـ القصيرـ مهندم الثياب يحمل كلباً بين يديه ! أمام عدسات المصورين ليعطي رسالة واضحة للخارج عن أفكاره وطموحاته ، رسالةٌ استمرت ما يقرب من 9 سنوات كتب حروفها بالدم ، والانتهاكات ، والتزوير معلناً نفسه قوةً ناعمة مستعدة لتجفيف منابع أعداء الغرب ورافضي الحداثة مقابل غض الطرف عن الانقلاب على حكومة منتخبة ..

وغادر نواز إلى الخليج كما غادرت بنازير المتهمة بالفساد قبله !

بعد أحداث 11 سبتمبر صنع برويز من نفسه رأس حربة طويلة للولايات المتحدة .. قدَم كما لم يُقدم أحداً قبله : سَلم مطلوبين مقابل مبالغ مالية ضخمة ، وأطلق يده في طول البلاد وعرضها : يعبثُ بالدساتير ، وُيسيس القضاء ، ويَعزل أو يستميل القضاة ، وفرض الطوارئ ، وزور الانتخابات ، وضرب منطقة القبائل بالطائرات والصواريخ وفتت النقابات وألجم الأفواه ، وحطم القلوب ، وكسر العظام ، وأعطى الضوء للطائرات الأمريكية للقتل الانتقائي بالصواريخ العبثية التي لا ترحم ولا تلتزم بمبادئ أو قيم ..

بكى الجنرال بدايةً وهاهو يرفع راية الاستلام صاغراً (ليضع مستقبله في يد الشعب) وتتخلى الإمبراطورية العظمى عنه كما تخلت عن الشاه بإعلان كوندليزا رايس (أن منح بلادها مشرف حق اللجوء السياسي أمر غير وارد) وترحب بأسلافه .. فتحالف (نواز ومستر 10%) سيلبي مطالبها ، ويزيل عنها الحرج الذي سببه الإمبراطور المخلوع بجرأته واستخدامه المفرط للقوة في الداخل ، فالجنرال لم يكن ناعماً بالقدر الذي تطلبه أمريكا في عملائها ، لكنه كان عاصفةٌ بلا رَوية ..

مذكرات مشرف في كتابه (على خط النار) تؤكد أن عمله لصالح الولايات المتحدة وتخليه عن القاعدة "وحليفته السابقة طالبان " لم تكن نابعة من اعتقاده بصوابية فكرته ، ولكن بسبب حسابات المصالح الحيوية لباكستان .. ما لم يقله مشرف انه تخلى عن كل شيء لصالح الولايات المتحدة لحساب لغة المصالح بمفهومها المطلق ..

أحداث جسام ربما يقرئها الباكستانيون بسهولة وعبد القدير خان يُهان ويجبر على الاعتذار قبل أن يوضع رهن الإقامة الجبرية في الجمهورية التي أضحت ملعباً كبيراً لكل أجهزة المخابرات على اختلاف هوياتها . الكلُ يضرب ركلة البدء لمباراة لا نهاية لها .. والإعلام الرسمي ينقل بفخر بدءا من سحب خالد شيخ محمد من عاتقه وجر رمزي بن الشيبه وليس انتهاء بذبح النساء والأطفال في المسجد الأحمر لأيام وليال .. فالديكتاتوريات تعتقد أنها بالقسوة والعنف تبني خلوداً ، وهي تُسَطرُ نهايةً وتؤسس لصروح العار حقيقةً ..

كثيرون من الساسة والكُتاب والمُحللين المصريين اعتبروا في أحاديث مع الصحف اليومية أن استقالة مشرف "بداية لعصر إزاحة بعض الرؤساء المنتخبين " بعد الربط بينه وبين رئيس موريتانيا المخلوع .

لم يخرج احدهم عن إطار المشهد الآني ويتحدث عن الأسباب التي ألقت بالديكتاتور القوي خارج إطار الكادر، وكأن مشرف كان منتخباً بشكل حقيقيٍ أو ديمقراطي !! فالغبار الذي تثيره تداخلات الواقع العربي ربما تعيق النظر وتمنع الرؤية إلى الحد الذي نبحث فيه حول المصطلح متجاهلين الممارسة ..

لكن أهم ما في التجربة الباكستانية :

1ـ أن ممارسات رابطة الديكتاتوريات العربية والإسلامية واحدة وان اختلف الدور، والترتيب والتوقيت .

2ـ أن الولايات المتحدة لن تجد أدنى حرج في التخلي عن عملائها لعملاء جُدد أكثرُ وعياً وأقلُ صخباً .

3ـ أن الطغاة مهما استبدوا بالشعوب وانتهكوا وتألهوا وصادروا الأرواح وعبثوا بالدساتير لن يجاوزوا مرحلة البكاء والنحيب تاركين مستقبلهم أمام شعوبهم .

4ـ الـ 30 اتهام التي تواجه مشرف هي قليلة بالنظر إلى جرائم ديكتاتوريات أخرى .

قد يعتقد البعض أن الفرصة ما تزال سانحة أمام بعض الديكتاتورات للمصالحة مع الشعوب ونسيان الماضي لكن البعض الآخر يستدعي روعة المشهد ــ الانحناء وطلب الصفح والغفران ثم الاستقالة قهراً وجبراًــ ويحيا بالأمل في استنساخه وتكراره!! وتبقى ادوار الشعوب هي الفيصل وكلمتها هي المحك في منح الفرصة أو اللجوء للحسم ..

وائل الحديني . النافذة

ليست هناك تعليقات: