أ / فهمي هويدي
هُزمنا جميعا قبل أن تبدأ المباراة بين مصر والجزائر. هزمنا المتعصبون والجهلاء والحمقى، الذين أثاروا الفتنة وزرعوا بذور البغض والمرارة بين الشعبين بسبب المنافسة الكروية، وهزمنا إعلام الإثارة الذى ظل همه الأسابيع الماضية هو تأجيج الفتنة، فى غيبة الحد الأدنى من الشعور بالمسئولية الأخلاقية أو حتى المهنية، وأمام ضجيج الغوغاء ومزايداتهم وإزاء عمليات الشحن المريض التى مارستها الأبواق الإعلامية، فإن ما كان مباراة رياضية تحول إلى معركة عبثية بين الشعبين الشقيقين، قطعت فيها الوشائج الحميمة التى تربط بينهما وداست الأقدام على القيم النبيلة التى تتخلل نسيج العلاقات التاريخية والنضالية التى جمعتها، وأهدرت الأولويات التى ينبغى أن تحتل مكانها لدى الرأى العام فى البلدين.
انتصرت ثقافة المتعصبين والجهلاء والغوغاء، وضاع صوت العقلاء الواعين ليس فقط برسالة الرياضة وقيم
ها الأخلاقية والتربوية، ولكن أيضا بحقيقة ما بين الشعبين المصرى والجزائرى، وحقيقة الأمة التى ينتمى إليها هؤلاء وهؤلاء، الأمر الذى حول حدث المباراة إلى فضيحة مجلجلة، أشعرتنى بالاشئمزاز والقرف، حتى تمنيت أن تُلغى المباراة وأن تُشطب كرة القدم على الأقل من المنافسات الرياضية فى العالم العربى، طالما أنها صارت سبيلا إلى إشاعة الخصام والكراهية والنقمة بين الشعوب.
لقد استنفر الإعلام الجماهير فى البلدين، حتى أصيبت القاهرة على الأقل بما يشبه الشلل يوم فتح الباب لبيع تذاكر المباراة من خلال بعض الأندية والمنافذ، فتجمعت الحشود فى الصباح الباكر فى طوابير طويلة لم تعرفها المدينة فى أى مناسبة أخرى.
وتعطل المرور، وتجمعت أرتال سيارات الأمن المركزى التى اصطفت على جوانب الطرق تحسبا لأى طارئ، وكانت كل الدلائل مشيرة إلى أن عاصمة «أم الدنيا» مقبلة على حدث جلل، لا يخطر على بال أى عاقل أنه مباراة فى كرة القدم بين بلدين شقيقين، حتى وضعت يدى على قلبى تحسبا لما يمكن أن يحدث أثناء المباراة وبعدها.
صحيح أن الإعلام المريض لعب دورا أساسيا فى تأجيج المشاعر وتعبئة الناس وتحريضهم ضد بعضهم البعض، وأنه نجح فى أن يحول الأخوة الأشقاء إلى أخوة أعداء، ولكننا ينبغى أن نفكر مليا فى أسباب ذلك النجاح، والظروف التى دعت الجماهير العريضة إلى الاندفاع فى الاستجابة للتحريض والإثارة.
بكلام آخر فإن أسباب التحريض التى تراوحت بين الإثارة والوقيعة مفهومة، لكن حالة القابلية للتحريض والاستجابة والسريعة له بحاجة إلى تفسير، يتجاوز مجرد عشق الناس لكرة القدم. فى هذا الصدد أزعم أن الفراغ الهائل المخيم على العالم العربى المقترن بالانكفاء الشديد على الذات يشكل عنصرا مهما فى تفسير تلك الاستجابة. إذ قد يعن للباحث أن يسأل: إذا لم ينشغل الناس بكرة القدم وينتصرون أو يتعصبون لفرقها ونواديها المختلفة، فبأى شىء ينشغلون إذن؟.. إن فى مصر 24 حزبا سياسيا مصابة بالشلل الرباعى، لكن أكبر حزبين فى الشارع المصرى هما حزبا الأهلى والزمالك، وإذا صح هذا التحليل فإنه قد يزود أنصار فكرة المؤامرة بحجة قوية تؤيد موقفهم، الأمر الذى يستدعى السؤال التالى: هل يستبعد ان يكون من بين أهداف ذلك الشحن والتحريض اشغال الجماهير بمباراة المنتخب المصرى ضد نظيره الجزائرى، أَوَ ليس من شأن ذلك ان يصرف الناس عن قائمة الهموم الطويلة، من الزبالة إلى السحابة السوداء مرورا بالغلاء والفساد والبطالة وانتهاء بحكاية توريث الحكم وتهويد القدس والتواطؤ الأمريكى ــ الإسرائيلى والتهديدات التى يتعرض لها الأمن القومى المصرى والعربى؟.
سواء كان الفراغ هو السبب فى اللوثة الفاضحة التى حلت بنا، أو كان للسلطة يد فى محاولة الهاء الناس وتخديرهم، فالنتيجة واحدة، وهى أن تلك المباراة البائسة كانت سببا فى تسميم العلاقات بين الشعبين المصرى والجزائرى، لا يغير من هذه الحقيقة أن يفوز هذا الفريق أو ذاك، حيث لا قيمة ولا طعم لفوز أى فريق فى المباراة إذا ما كان الشعبان قد خسرا بعضهما البعض وخرجا بعد المباراة وقد تمكنت المرارة من كل الحلوق.
إن الأمة التى تنساق وراء متعصبيها وجهلائها تتقدم حثيثا على طريق الخزى والندامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق